Fighting the mafia

تجربة بالرمو في مكافحة مافيا الفساد
القاعدة الحقوقية والثقافة في المقاومة المدنية
ليولوقا اورلاندو (VOL 22)

تعريب : افلين ابو متري مسرّه


ليولوكا اورلندو، مقاومة المافيا: سيرة ذاتية في العمل السياسي والمقاومة المدنية، نقلته عن الانكليزية افلين ابو متري مسرّه، بيروت، المؤسسة اللبنانية للسلم الاهلي الدائم، واميدست-لبنان، المكتبة الشرقية، 2005، 248 ص.

صدر كتاب باللغة العربية، نقلاً عن الانكليزية وتعريب افلين ابو متري مسرّه، للنائب السابق في البرلمان الاوروبي والمحافظ لمدينة بالرمو (ايطاليا)، ليولوكا اورلندو، يروي فيه سيرته الذاتية طيلة اكثر من ربع قرن في العمل المدني والسياسي اليومي لمقاومة المافيا في صقلية التي كانت معروفة بطغيان مافيا الفساد على كافة قطاعات الحياة. وكان الكاتب والمحافظ السابق لمدينة بالرمو يسمى "الجثة المتحركة" لأنه كان معرضًا يوميًا للتهديد. بفضل العمل التضامني مع العديد من الهيئات الاهلية والعاملين في المجال العام استعادت صقلية اصالة تراثها وثقافتها وعمرانها من خلال ترسيخ دولة الحق.

صدر الكتاب في منشورات المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم بالتعاون مع اميدست-لبنان (بيروت، توزيع المكتبة الشرقية، 2005، 248 ص) بإذن خاص من الناشر للطبعة الاولى العربية: Leoluca Orlando, Fighting the Mafia and Renewing Sicilian Culture, San Francisco, Encounter Books, 2001, 224 p.

شارك الكاتب في ندوة دولية عقدتها في بيروت المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم في 19-20 آذار / مارس 2004 حول موضوع: "التربية على القاعدة الحقوقية: مضامينها وتطبيقاتها وخبرات من لبنان وللبنان" حيث عرض مع مشاركين آخرين تجارب ميدانية.

ننشر في ما يلي مقتطفات من الترجمة العربية لكتاب ليولوكا اورلاندو لما يتضمنه من وسائل مدنية وعملية في مكافحة الطغيان والفساد من خلال الثقافة والهوية والعمل المدني وفي المجال العام بواقعية وثبات وتصميم.

***

كان ذلك في حزيران 1999 عندما نزعت عنها وأخيرًا بالرمو Palermo صفة مدينة من العالم الثالث واصبحت في النهاية مدينة اوروبية كبيرة. هذه المدينة التي وصفها مسافر فرنسي في اوائل القرن العشرين قائلاً: "مدينة حيث حتى براعم الحامض والبرتقال تفوح جثثا وتعبق برائحة الموت".

من أهم الاماكن التي تتوج نهوض بالرمو مدينة للحياة هو مسرح ماسيمو
Teatro Massimo . سنة 1996 استؤنف العمل في مسرح ماسيمو مجددًا ليثبت لأهل صقلية وللعالم بان شبح العنف واللاشرعية قد ولى.

 

لا لأصوات المافيا

حادثة لا زالت حية في ذاكرتي، يومًا بعد الظهر وكان لي مشكلة سلوك في المدرسة تأخر والدي عن الغذاء. وهذا بذاته أمر غير معهود. اخبرتنا والدتي بأن والدي ذهب لمقابلة الكاردينال روفيني Cardinal Ruffini ، رئيس أساقفة بالرمو وتظن انها شخصية تأتي درجة واحدة بعد الحبر الأعظم. وأخيرًا عند الثانية، وصلت السيارة الى طريق بيتنا الخاص. دخل والدي واعتذر للحال عن تأخره، وجلسنا الى المائدة.

سألته والدتي بعد ان جلسنا بعدة دقائق وبصوت خافت: "هل قابلت نيافَتَهُ؟"

أجابها والدي دون ان يرفع نظره اليها: "نعم"

اضافت: "تَأَخَّرْتَ كثيرًا"

اجاب: "نعم، المحادثة كانت طويلة"

ونحن مستمرون في الغذاء، دخل والدي الى غرفة حيث يمكننا ان نراقب لا ان ندخل. كانت غرفة ملأى بالمناظر والوقفات اكثر منها بالكلمات.

سألته والدتي: "ما كان موضوع اللقاء؟ عما تحدثتم؟"

فأجابها: "هل تعلمين؟ طلب مني نَيَافَتُهُ ان أُقَدِّم ترشيحي عن المسيحيين الديمقراطيين للانتخابات المقبلة. وأكد لي بأن الكنيسة ستكون بجانبي وتدعمني".

سألت والدتي: "ما كان جوابك؟"

اجاب: "رفضت".

لماذا؟ لم تسأل أمي هذ السؤال. اما انا في سكوتي وبدون ان ارفع نظري تساءلت: لماذا لم يقبل والدي ان يكون مرشحًا؟ كان يمكن ان يكون نائبًا في البرلمان ورفض! يمكن ان يكون في روما مع الوزراء ورؤساء الدول ورفض!

واستأنف والدي يقول وكأنه يُجيبني مباشرة: "اذا ترشََّحت مع المسيحيين الديمقراطيين، سأضطر لقبول اصوات المافيا".

وأخيرًا قالها! قال الكلمة!

 

لن تصل الى أبعد من "بايبي لونا"

كنت اتمشى في البيت ارتشف بلذة قهوتي عندما مر نظري بسرعة على شاشة التلفزيون حيث رأيت مشهدًا من برنامج تافه يبث صباح كل أحد. ولم أشأ انقله اذ تسمرت عينايا على الشاشة لأقرأ: "جرح الرئيس السابق لمنطقة صقلية، بيرسنتي ماتاريلا، جرحًا مميتًا!"

عُرِضَ جثمان بيرسنتي في مكتبه في الطابق الثاني من بالازو دورليان Palazzo d'Orleans . فوق تابوته علقت لوحة لفارسين يتبارزان. كان يوم دفن بيرسنتي يومًا مكفهرًّا وممطرًا وكئيبًا. رفعنا نعشه على اكتافنا وقد تبللت وجوهنا بالدموع والمطر في آن.

سنة 1980 كانت سنة الانتخابات للمجلس البلدي في بالرمو فدفعني سرجيو Sergio ، أخو برسنتي واصحابه، ومحازبوه لأُقّدِّم ترشيحي لهذا المنصب. لو كنتُ مرشحًا فحسب لأمطرت علي عروض المساعدة. ولكنّي كنتُ مدعومًا بأصحاب بيرسنتي وممثّلاً لفلسفته لذلك لم يَعْرِضْ عليَّ احد المساعدة كما واني لم أطلب مساعدة من أحد. في بدء معركتي الانتخابية، توجَّهَ إليَّ رجل مسن وحكيم من بالرمو يتكلم اللهجة الصقلية بالتنبيه التالي وقال: "بروفسور انت رجل تفرض الاحترام ولا يعرفك الكثيرون ولكن الذين يعرفونك سيدلون لك باصواتهم. سيكون الفوز حليفك ولكن لن تصل سوى الى بايبي لونا Baby Luna ولا يمكنك الذهاب أبعد". والبايبي لونا بار يقع على جسر نهر اوريتو Oreto وكان في حينه نهرًا ملوّثًا تنبعث منه رائحات كريهة.

 

آمال الشرفاء والثقافة

في أحد مشاهد فيلم جيوفاني فيرارا Geovanni Ferrara وعنوانه "مئة يوم في بالرمو"
A Hundred Days in Palermo التي تَعْرِض قصّة رئيس الأمن دالا تشييزا في صقلية تتبع الكاميرا الجنرال في زيارة الى محل بناء سفن وترينا أحد العمال يسأله: "جنرال، ماذا تريد أن تفعل هنا؟ تريد أن تُحْدِثَ ثورة؟

فأجابه دالا تشييزا مبتسمًا: "ثورة؟ كلا. فقط أريد ان أُطَبِّقَ القانون".

فأردف العامل: أوَ ليسَ هذا ثورةً؟"

 

التخلص من التبعية

دخل صحافي الماني مكتبي لاجراء مقابلة معي وقال: "سيّدي المحافظ، كنت الآن في مركز البوليس الرئيسي، هل تعلم ماذا يسمّونك هناك؟"

فأجبت:"لا، لا اعلم".

قال: "انهم يلقبونك "بالجثة المتحركة" walking corpse انهم متأكدون انك التالي".

كانت فترة حرجة. منذ زمن بعيد اخذت جانبًا في هذه الحرب الاهلية. وللمرة الاولى ارى النتائج الممكنة والمتأتية من القرار الذي اتخذت وهو ان أَلْعَب دورًا في هذا الظرف بين قوات القانون وقوات الفوضى. وعرفت انه اذا لم اعمل على انشاء حركة للتغيير والتجديد ستكون آخرتي.

أول خطوة هي ان أحرر المدينة من ثقافة قديمة، ثقافة "الزبائنية"، بالرجوع الى الفكرة الصقلية وهي ان أي شخص ينتمي الى عائلة ما، او قبيلة، او اخوية، يفرض حقوقًا خاصة. بهذا المفهوم، ضروري ان نفهم ان الحكومة تحترم حقوق كل انسان بالمساواة والا فهي تؤمن امتيازات ومنافع. بعدما اصبحت محافظًا بفترة قصيرة، زارني وفد في مكتبي. وقف المتكلم باسمه وقال:

"سيدي المحافظ، انا عضو في حزبك وصوَّتُ لك…"

أسرعت للحال الى احد مساعدي وقلت له: "أرجوك اخرج هذا الرجل. سوف أتابع اجتماعي مع الآخرين".

 

لا تراجع في العمل المدني

بدأنا ايضا نعمل مع الاولاد ببرنامج اسميناه "تبنّى معلمًا اثريًا" وكان هذا انقطاع ثوري عن الماضي. لان المافيا، ككل السلطات التوتاليتارية توطد نفوذها بطمس الذاكرة الثقافية والهوية المدنية. في السنوات القليلة الماضية تبنّى ما يقارب 25000 تلميذ ما يزيد على 160 معلمًا اثريًا في بالرمو: الكنائس مع الجدرانيات نُظِّفت وأعيدت اليها رسماتها، والمكاتب الرسمية التي اقيمت في القرون السابقة رممت وتجددت واعيد استعمالها. الحدائق العامة استعادت اخضرارها وازهرت من جديد. بعد ازالة الاوساخ عن هذه المعالم الاثرية عرف اولادنا ان عملهم هذا يساعد على نزع الاوساخ التي تراكمت في نفوسهم طوال سنوات الاجرام والقتل.

خلال صيف 1999، عندما نظرت الى مدينتي بعيون جديدة، ونظرت ايضًا الى ذاتي شعرت بتعجب ودهشة لأنني لا ازال على قيد الحياة. لسنوات عديدة – سنوات طويلة كما اذكر – كنت رجلا "ممركًا" يرقبه الناس بحذر. والسؤال كان لا اذا كنت سأقتل بل متى وكيف.

في برنامج تلفزيوني خاص بي اطلقت علي القناة الانكليزية England Channel Four لقب "جثة تمشي" Walking Corpse . وهذا ما كنت اشعر به. كنت اختبر الموت بالنيابة كل يوم. ولكن عندما دخل شعب بالرمو في فجره الجديد، وردت في ذهني فكرة جديدة: "ربي، لا ازال حيًا!" كيف يجب ان اقضي هذه الحياة الجديدة التي انعمت بها علي؟ والجواب كان سهلاً: ان نعيد الى هذه المدينة عظمتها الغابرة.

حادثة اخرى احببتها بصورة خاصة لأني أرى فيها تفاؤلاً للمستقبل. وجدت نفسي أمام احدى سيّدات الأعمال، لائقة اللباس والمظهر في وظيفة رسمية. شرعت تحدثني بنوع من السطحية والسخافة. فكانت اجوبتي بعيدة عن الموضوع لأنني علمت انها ستستعمل اجوبتي ربما للممازحة والتعليق في أحد العشوات. قالت: "استقبل بصورة مستمرة المتعهدين على العشاء، وأكثر ما يدور الحديث عن شخصك وعن حكومتك". وسكتت تترقب مني سؤالاً. فاستأنفت الحديث بكل صراحة: هم لا يحبونك، يقولون بأنك تحب الاجانب، بقدر ما أنت متكبر وفخور بنفسك… وتقبل بالاكراميات! وهم يسألونك، على اي حال من تفكر نفسك".

واضافت: "ولكن كلما تحدثوا ضدك، غابرييل Gabriele وهو اصغر ابنائي يدافع عنك بكل جهوده".

عندها سألتها: "أصحيح هذا؟ كم يبلغ عمره!"

أجابت: "إحدى عشرة سنة. رآك عندما ذهبت الى مدرسته وتكلمت مع التلامذة".

بعدها نظرت إلي مهتمة لتنهي قائلة: "هل تعرف؟ لا يمكنك ان تكون محافظًا لي لقد فات الزمن لذلك. ولكن اصبحت محافظًا لابني وربما هذا المهم".